فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة المرسلات:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم).
{بسم الله} كلمة من سمعها بسمع الوجد وفي له فلم ينظر إلى أحد، ومن سمعها بسمع العلم جاد له فلم يبخل بروحه على أحد.
ومن سمعها بسمع التوحيد جرد سره عن إيثار ما سواه في الدنيا والعقبى عينا وأثرا فما كان هذا كله إلا حاصلا به كائنا منه.
{وَالمُرْسَلاَتِ عُرْفاً}.
{المرسلات}: الملائكة {عرفاً} أي: أرسلوا بالمعروف من الأمر، أو كثيرين كعُرْفِ الفَرس.
{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً}.
الرياحُ الشديدة العوصف تأتي بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه.
{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً}.
الأمطار لأنها تنشر النبات. فالنشر بمعنى الإحياء. ويقال السُّحُبُ تنشر الغيث. ويقال: الملائكة.
{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً}.
الملائكة؛ تفرق بين الحلال والحرام.
{فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً}.
الملائكة: تُلقِي الوحي على الأنبياء عليهم السلام؛ إعذاراً وإنذاراً. وجوابُ القَسَم:
{إِنَّمَا تُوَعَدُونَ لَوَاقعٌ}.
فأقسم بهذه الأشياء: إنَّ القيامة لحقُّ.
قوله جلّ ذكره: {فَإِذٍَا النُّجُومُ طُمِسَتَ}.
إنما تكون هذه القيامة. و{طمست}: ذهب ضَوؤُها.
{وَإِذَا الجِبَالُ نُسِفَتْ}.
ذَهَبَ بها كلِّها بسرعة، حتى لا يَبْقَى لها أَثَرٌ.
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقَّتَتْ لاَّيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ}.
أي: جَعَلَ لها وقتاُ وأَجَلاً لفَصْلِ القضاءِ يومَ القيامة.
ويقال: أُرْسِلَتْ لأوقاتٍ معلومة.
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}.
على جهة التعظيم له.
{وَيْلٌ يَؤْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
مضى تفسيرُ معنى الويل.
ويقال في الإشارات: فإذا نجومُ المعارف طمست بوقوع الغيبة.
{وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} القلوبُ الساكنة بيقين الشهود حُرِّكَتْ عقوبةً على ما هَمَّتْ بالذي لا يجوز. فويلٌ يومئذٍ لأرباب الدعاوَى الباطلِة الحاصلةِ من ذوي القلوب المُطبقة الخالية من المعاني.
قوله جلّ ذكره: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأَخِرِينَ}.
الذين كذَّبوا رُسُلَهم، وجحدوا آياتنا؛ فمثلما أهلكنا الأولين كذلك نفعل بالمجرمين إذا فعلوا مثلَ فِعْلِهم.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} الذين لا يستوي ظاهرُهم وباطنهم في التصديق.
وهكذا كان المتقدمون من أهل الزَّلَّة والفَترة في الطريقة، والخيانة في أحكام المحبة فعُذِّبوا بالحرمان في عاجلهم، ولم يذوقوا من المعاني شيئاً.
قوله جلّ ذكره: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ}.
أي: حقير. وإذ قد علمتم ذلك فلِمَ لم تقيسوا أمر البعث عليه؟
ويقال: ذَكَّرَهم أصلَ خلقتم لئلا يُعْجَبوا بأحوالهم؛ فإنه لا جِنْسَ من المخلوقين والمخلوقاتِ أشدَّ دعوى من بني آدم. فمن الواجب أَنْ يَتَفَكَّرَ الإنسان في أَصلِه... كان نطفةً وفي انتهائه يكون جيفة، وفي وسائط حالِه كنيفٌ في قميص!! فبالحريِّ ألاَّ يُدِلَّ ولا يفتخر:
كيف يزهو مَنْ رجيعهُ ** أَبَدَ الدهرِ ضجيعُه

فهو منه وإليه ** وأَخوه ورضيعُه

وهو يدعوه إلى الحُ ** شِّ بصغر فيطيعه

ويقال: يُذكِّرهم أصلَهم.. كيف كان كذلك... ومع ذلك فقد نقلهم إلى أحسن صورة، قال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، والذي يفعل ذلك قادِرٌ على أن يُرقِّيَكَ من الأحوال الخسيسة إلى تلك المنازل الشريفة.
قوله جلّ ذكره: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضِ كِفاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً}.
{كِفَاتاً} أي: ذات جَمْعٍ؛ فالأرض تضمهم وتجمعهم أحياءً وأمواتاً؛ فهم يعيشون على ظهرها، ويُودَعون بعد الموت في بطنها..
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتاً}.
أي: جبالاً مرتفعات، وجعلنا بها الماء سقياً لكم. يُذكِّرهم عظيم مِنَّتهِ بذلك عليهم. والإشارةُ فيه إلى عظيم مِنَّته أنَّه لم يخسف بكم الأرض- وإن عملتم ما عملتم.
{انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم به تُكَذِّبُونَ}.
يقال لهم: انطلقوا إلى النار التي كذَّبتم بها.
{انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلاَثِ شُعَبٍِ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهبِ}.
كذلك إذا لم يعرفْ البعدُ قَدْرَ انفتاح طريقه إلى الله بقلْبه، وتعزُّرِه بتوكله... فإذا رجع إلى الخَلْقِ عند استيلاء الغفلة نَزَعَ الله عن قلبه الرحمةَ، وانسدَّت عليه طُرُقُ رُشْدِه، فيتردد من هذا إلى هذا إلى هذا.
ويقال لهم: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذِّبون. والاستقلالُ بالله جنّة المأوى، والرجوعُ إلى الخَلْقِ قَرْعُ باب جهنم.. وفي معناه أنشدوا:
ولم أرَ قبلي مَنْ يُفارِقُ جنَّةً ** ويقرع بالتطفيل بابَ جهنم

ثم يقال لهم إذا أخذوا في التنصُّل والاعتذار:
{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}
فإلى أنْ تنتهيَ مُدّةُ العقوبة فحينئذٍ: إنْ استأنَفْتَ وقتاً استؤنِفَ لك وقتٌ. فأمَّا الآن.. فصبراً حتى تنقضِيَ أيامُ العقاب.
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)}
فعلنا بكم ما فعلنا بهم في الدنيا من الخذلان، كذلك اليوم سنفعل بكم ما نفعل بهم من دخول النيران.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)}
اليومَ.. في ظلال العناية والحماية، وغداً.. هم في ظلال الرحمة والكلاءة.
اليومَ.. في ظلال التوحيد، وغداً.. في ظلال حُسْن المزيد.
اليومَ.. في ظلال المعارف، وغداً.. في ظلال اللطائف.
اليومَ.. في ظلال التعريف، وغداً.. في ظلال التشريف.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)}
اليومَ تشربون على ذِكْره.. وغداً تشربون على شهوده، اليوم تشربون بكاسات الصفاء وغداً تشربون بكاسات الولاء.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ}.
والإحسانُ من العبد تَرْكُ الكلِّ لأَجله! كذلك غداً: يجازيك بترك كلِّ الحاصل عليك لأجْلِك.
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)}
هذا خطابٌ للكفار، وهذا تهديد ووعيد، والويل يومئذٍ لكم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)}
كانوا يُصُرُوُّن على الإباء والاستكبار فسوف يقاسون البلاء العظيم.
ذكر في التفسير أن المتقين دائماً في ظلال الأشجار، وقصور الدرِّ مع الأبرار، وعيون جارية وأنهار، وألوانٍ من الفاكهة والثمار.. من كل ما يريدون من المِلك الجبَّار. ويقال لهم في الجنة: كلوا من ثمار الجنات، واشربوا شراباً سليماً من الآفات. {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الطاعات. {كَذَلِكَ نَجْزْى الْمُحْسِنِينَ} من الكرامات. قيل: كلوا واشربوا {هَنِيئَا}: لا تبعة عليكم من جهة الخصومات، ولا أذيَّة في المأكولات والمشروبات.
وقيل: الهنيء الذي لا تَبِعَةَ فيه على صاحبه، ولا أَذِيَّةَ فيه من مكروهٍ لغيره. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
ومن سورة المرسلات:
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}،
قال الشَّعْبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ ظَهْرَهَا لِلْأَحْيَاءِ وَبَطْنَهَا لِلْأَمْوَاتِ، وَالْكِفَاتُ الضِّمَامُ، فَأَرَادَ أَنَّهَا تَضُمُّهُمْ فِي الْحَالَيْنِ.
وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا} قال: تَكْفِتُ الْمَيِّتَ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَأَحْيَاءً قال: الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ لَا يُرَى مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُوَارَاةِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ وَدَفْنِ شَعْرِهِ وَسَائِرِ مَا يُزَايِلُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعْرَهُ وَشَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الله قَدْ أَوْجَبَ دَفْنَهُ، وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ الله الْوَاصِلَةَ» وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ شَعْرَ غَيْرِهَا بِشَعْرِهَا، فَمَنَعَ الِانْتِفَاعَ به، وَهُوَ مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا.
وَرُوِيَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ أَخَذَ قَمْلَةً فَدَفَنَهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَصَى، ثُمَّ قال: قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مِثْلُهُ.
وَأَخَذَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ قَمْلَةً عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَطَرَحَهَا فِي الْمَسْجِدِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَنْفِي الْأَوَّلَ وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي الْجَمِيعَ.
آخِرُ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة المرسلات فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ:
وَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ القرآن عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الْأَرْضِ.
وَرَوَى الصَّحِيحَانِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ، فَنَزَلَتْ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً إذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ جُحْرِهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا، فَقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا».
الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا}: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
الْكِفَاتُ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، يُقال: كَفَتَهُ يَكْفِتُهُ كَفْتًا وَكِفَاتًا مِثْلُ كَتَبَ يَكْتُبُ كَتْبًا وَكِتَابًا، أَيْ يَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمَمْته فَقَدْ كَفَتَّهُ، فَإِذَا حَلَّ الْعَبْدُ فِي مَوْضِعِهِ فَهُوَ كِفَاتُهُ، وَهُوَ مَنْزِلُهُ، وَهُوَ دَارُهُ، وَهُوَ حِرْزُهُ، وَهُوَ حَرِيمُهُ، وَهُوَ حِمَاهُ، كَانَ يَقْظَانَ أَوْ نَائِمًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ قال: كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي بِثَمَنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؛ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأَخَذَ الرَّجُلَ، فَأَتَى به النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ به لِيُقْطَعَ قال: فَقُلْت لَهُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، أَنَا أَبِيعُهُ إيَّاهَا، وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا. قال: «هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي به، فَكَانَتْ نَفْسُهُ حِيَازَةَ مَوْضِعِهِ وَحِرْزِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَنَعَتِهِ وَحِصْنِهِ».
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} يَقْتَضِي أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كُلِّهَا مِنْ شَعْرٍ، وَظُفْرٍ، وَثِيَابٍ، وَمَا يُوَارِيهِ عَلَى التَّمَامِ، وَمَا اتَّصَلَ به وَمَا بَانَ عَنْهُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ الْمَسَائِلِ:
المسألة الثَّالِثَةُ:
احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بهذِهِ الْآيَةِ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَكْفُوتٍ، وَحِمًى مَضْمُومٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَرَّرْنَا أَنْ يُنْظَرَ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ نَقول: هَذَا حِرْزٌ كِفَاتٌ، لِقول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} فَجَعَلَ حَالَ الْمَرْءِ فِيهَا بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي كَفْتِهَا لَهُ وَضَمِّهَا لِحَالِهِ كَحَالَةِ الْحَيَاةِ وَمَا تَحْفَظُهُ وَتَحْرُزُ حَيًّا، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا فَهَذَا أَصْلٌ ثَبَتَ بِالقرآن، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ قولهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ السَّارِقَ فِيهَا هُوَ آخِذُ الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ الْخِفْيَةِ وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ، وَهَذَا فِعْلُهُ فِي الْقَبْرِ كَفِعْلِهِ فِي الدَّارِ، ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الَّذِي سُرِقَ مَالٌ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقول: إنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ، وَقُلْنَا نَحْنُ: هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ فِي مَنْفَعَةِ الْمَالِكِ، كَالْمَلْبُوسِ فِي الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ مَالِكٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ، تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ فِيهِ وَصَايَاهُ.
وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَفَنِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ به وَمُحْتَاجٌ إلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ مِنْ القرآن وَالْمَعْنَى ثَبَتَ الْقَطْعُ. وَالله أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {إنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
قال الْمُفَسِّرُونَ: فِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أُصُولُ الشَّجَرَةِ الثَّانِي الْجَبَلُ الثَّالِثُ الْقَصْرُ مِنْ الْبِنَاءِ الرَّابِعُ خَشَبٌ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ؛ قالهُ ابْنُ عَبَّاسٍ الْخَامِسُ أَعْنَاقُ الدَّوَابِّ السَّادِسُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قرأهَا الْقَصَرُ، وَفَسَّرَهَا بِأَعْنَاقِ الْإِبِلِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
أَمَّا (ق ص ر) فَهُوَ بِنَاءٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مُخْتَلِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا انْطِلَاقًا وَاحِدًا.
وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ فِي ذَلِكَ.
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلَّ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ، فَنُسَمِّيهَا الْقَصَرَ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
أَمَّا ادِّخَارُ الْقُوتِ فَقَدْ تَقدّم الْقول فِيهِ أَمَّا ادِّخَارُ الْحَطَبِ وَالْفَحْمِ فَمُسْتَفَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُوتِ فَإِنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمَرْءِ، وَمَغَانِي مَفَاقِرِهِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي النَّظَرَ أَنْ يَكْتَسِبه فِي غَيْرِ وَقْتِ حَاجَتِهِ، لِيَكُونَ أَرْخَصَ، وَحَالَةُ وُجُودِهِ أَمْكَنَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَّخِرُ الْقُوتَ فِي وَقْتِ عُمُومِ وُجُودِهِ مِنْ كَسْبه وَمَالِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبه فِي وَقْتِ رُخْصِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قال الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يَبْتَاعُ لَهُ فَحْمًا فَابْتَاعَهُ لَهُ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَبْتَاعُ فِيهِ لِيَدَّخِرَهُ الْعَبْدُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِحَالٍ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقْتَضَى بِالِاسْتِدْلَالِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
الرُّكُوعُ مَعْلُومٌ لُغَةً، مَعْلُومٌ شَرْعًا حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ كَرَاهِيَةَ التَّطْوِيلِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الرُّكُوعِ وَإِنْزَالِهِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، فَيَتَوَجَّهُ فِيهَا أَمْرٌ يَكُونُ عَلَيْهِ وَيْلٌ وَعِقَابٌ، وَإِنَّمَا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ كَشْفًا لِحَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ، وَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ رِئَاءً لِغَيْرِهِ صَارَ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا.
المسألة الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ: قال عَبْدُ الله يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} الْحديث إلَخْ فَمِنْ الْفَوَائِدِ الْعَارِضَةِ هَاهُنَا أَنَّ القرآن فِي مَحَلِّ نُزُولِهِ وَوَقْفِهِ عَشْرَةُ أَقْسَامٍ: سَمَاوِيٌّ، وَأَرْضِيٌّ، وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَحَضَرِيٌّ، وَسَفَرِيٌّ، وَمَكِّيٌّ، وَمَدَنِيٌّ، وَلَيْلِيٌّ، وَنَهَارِيٌّ، وَمَا نَزَلَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالله أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقرأ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فَقالتْ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ أَذْكَرْتنِي بِقراءتك هَذِهِ السُّورَةَ، إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقرأ بها فِي الْمَغْرِبِ، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا حَتَّى قَبَضَهُ الله.
وَقَدْ قدّمنَا أَنَّهُ قرأ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ، فِي طَرِيقٍ أُخْرَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقرأ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ. اهـ.